فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات} فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مُبْدِع؛ كبصير من مُبْصر.
أبدعتُ الشيء لا عن مثال؛ فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي منشئها ومُوجدها ومبدعها ومخترعها على غير حدّ ولا مثال.
وكل من أنشأ ما لم يُسْبق إليه قيل له مبدع؛ ومنه أصحاب البِدَع.
وسُمّيت البِدْعة بِدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام؛ وفي البخاري ونِعْمَتِ البِدْعة هذه يعني قيام رمضان. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول، لأنه تعالى قال: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} فبين بذلك كونه مالكًا لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضًا للسموات والأرض، ثم إنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال: {وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. اهـ.

.قال القرطبي:

كل بِدْعة صدرتْ من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أولًا؛ فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحضّ رسوله عليه؛ فهي في حيّز المدح.
وإن لم يكن مثاله موجودًا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف؛ فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سُبق إليه.
ويَعْضُد هذا قول عمر رضي الله عنه: نِعْمتِ البدعة هذه؛ لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح، وهي وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس عليها؛ فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمعُ الناس لها، وندبُهم إليها، بدعةٌ لكنها بدعة محمودة ممدوحة.
وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهي في حيزّ الذم والإنكار؛ قال معناه الخطّابي وغيره.
قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «وشَرُّ الأمور مُحدثاتها وكل بِدعة ضلالة» يريد ما لم يوافق كتابًا أو سُنّة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بيّن هذا بقوله: «مَن سَنّ في الإسلام سُنَّةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومَن سنّ في الإسلام سُنَّة سيئة كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رَبَّ غيره. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعض الأدباء: القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية، وفي معناه القضية، وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب ق ض ى وأصله قضاي إلا أن الياء لما وقعت طرفًا بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفًا، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظًا، ومن نظائره المضاء والإتاء، من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء، من سقيت وشفيت، والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول: قضيت وقضينا، وقضيت إلى قضيتن، وقضيا وقضين، وهما يقضيان، وهي وأنت تقضي، والمرأتان وأنتما تقضيان، وهن يقضين، وأما أنت تقضين، فالياء فيه ضمير المخاطبة، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من ذلك قولهم؛ قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم، لأنه فصل للدعوى، ولهذا قيل: حاكم فيصل إذا كان قاطعًا للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها، وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع، وقولهم: قضى حاجته، معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه، وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12] وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعًا له وفراغًا منه، ومنه: درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها، وأما قولهم؛ قضى المريض وقضى نحبه إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق، أما الأول فيقال: قاضه فانقاض، أي شقه فانشق، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضًا على معنى القطع، فأولها: قضبه إذا قطعه، ومنه القضبة المرطبة، لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر، والقضيب: الغصن، فعيل بمعنى مفعول، والمقضب ما يقضب به كالمنجل.
وثانيها؛ القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان، لأن فيه قطعًا للمأكول، وسيف قضيم: في طرفه تكسر وتفلل.
وثالثها: القضف وهو الدقة، يقال رجل قضيف، أي: نحيف، لأن القلة من مسببات القطع.
ورابعها: القضأة فعلة وهي الفساد، يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إذا أراد إحكامه وإتقانه كما سبق في علمه قال له كن.
قال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه؛ ومنه سُمِّيَ القاضي؛ لإنه إذا حكم فقد فرغ مما بين الخصمين.
وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْب:
وعليهما مَسْرُودتان قضاهما ** داودُ أو صَنَعَ السَّوابِغِ تُبّعُ

وقال الشمّاخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قضيتَ أمورًا ثم غادرت بعدها ** بوائق في أكمامها لم تُفتَّق

قال علماؤنا: قَضَى لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق؛ قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي خلقهن.
ويكون بمعنى الإعلام؛ قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} [الإسراء: 4] أي أعلمنا.
ويكون بمعنى الأمر؛ كقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام؛ ومنه سُمِّي الحاكم قاضيًا.
ويكون بمعنى تَوْفِيَة الحق؛ قال الله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29].
ويكون بمعنى الإرادة؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} [الأنعام: 73] أي إذا أراد خلق شيء.
قال ابن عطية: قَضَى معناه قدّر؛ وقد يجيء بمعنى أمضى، ويَتَّجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السُّنة قدّر في الأزل وأمضى فيه.
وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أراد شيئًا بقرينة قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: 82] وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولًا أو فعلًا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرًا لأمور قبل أن تقع، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل: له أتفر من قضاء الله تعالى؟ فقال: «أفر من قضائه تعالى إلى قدره» ففرق صلى الله عليه وسلم بين القضاء والقدر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدًا بل يكوِّن الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.
وكان في الآية تامة لا تطلب خبرًا أي يقول له: إيجد فيوجد.
والظاهر أن القول والمقول والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن التقريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب (الكشاف) ونظره بقول أبي النجم:
إذ قالتتِ الأنساعُ للبطن أَلحق ** قُدْما فآضت كالفَنيق المُحْنَق

والذي يعين كون هذا تمثيلًا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودًا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيًا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافًا لما يوهمه كلام ابن عطية. اهـ.

.قال الفخر:

في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا: إنه يستعمل على وجوه:
أحدها: بمعنى الخلق، قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} يعني خلقهن.
وثانيها: بمعنى الأمر قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23].
وثالثها: بمعنى الحكم، ولهذا يقال للحاكم: القاضي.
ورابعًا: بمعنى الإخبار، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسراءيل في الكتاب} [الإسراء: 4] أي أخبرناهم، وهذا يأتي مقرونًا بإلى.
وخامسها: أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] يعني لما فرغ من ذلك، وقال تعالى: {وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودى} [هود: 44] يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال: {لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] بمعنى ليفرغوا منه، إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47] قيل: إذا خلق شيئًا، وقيل: حكم بأنه يفعل شيئًا، وقيل: أحكم أمرًا، قال الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تبع

المسألة الثالثة:
اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق؟ نعم وهو المراد بالأمر ههنا، وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَمْرًا} الأمر واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر.
قال علماؤنا: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهًا:
الأوّل: الدِّين؛ قال الله تعالى: {حتى جَاءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} [التوبة: 48] يعني دين الله الإسلام.
الثاني: القول؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} يعني قولنا، وقوله: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 62] يعني قولهم.
الثالث: العذاب؛ ومنه قوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الأمر} [إبراهيم: 22] يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع: عيسى عليه السلام؛ قال الله تعالى: {إِذَا قضى أَمْرًا} [آل عمران: 47] يعني عيسى، وكان في علمه أن يكون من غير أب.
الخامس: القتل ببَدْر؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ الله} [غافر: 78] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: {لِّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] يعني قتل كفار مكة.
السادس: فتح مكة؛ قال الله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] يعني فتح مكة.
السابع: قتل قُرَيظة وجلاء بني النَّضير؛ قال الله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] الثامن: القيامة؛ قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] التاسع: القضاء؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر} [الرعد: 2] يعني القضاء.
العاشر: الوَحْي؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض} [السجدة: 5] يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض؛ وقوله: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] يعني الوحي.
الحادي عشر: أمر الخلق؛ قال الله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] يعنى أمور الخلائق.
الثاني عشر: النَّصْرُ؛ قال الله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} [آل عمران: 154].
يعنون النصر، {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} [آل عمران: 154] يعني النصر.
الثالث عشر: الذّنب؛ قال الله تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] يعني جزاء ذنبها.
الرابع عشر: الشأن والفعل؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فغْله وشأنه، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي فعله. اهـ.